الآداب المسيحية والانترنت
الاب (المطران) حبيب هرمز
(نشر في مجلة نجم المشرق عدد 33 سنة 2003)
مقدمة
تنتشر وبسرعة في مرافق المجتمع كافة ظاهرة استخدام منظومة (الانترنت)، وهي وسيلة اتصال اجتماعية سريعة تزود صورا وافكاراً تنتقل وبلمح البصر من بيت الى بيت، بل من قارة الى قارة. ان لهذه الظاهرة نتائج ايجابية وسلبية عميقة، وذلك بالنسبة الى كيان الشخص من الناحية الاخلاقية والاجتماعية والنفسية بل حتى بالنسبة الى المجتمع، وخصوصا بعد تداخل الثقافات الناتج من اسباب كثيرة لعل ابرزها الهجرة وتحول العالم الى قرية صغيرة .
إن وجهات نظر الناس كثيرة، ومعتقداتهم عديدة، لكن ما رأيكم بعد ان تتخيلوا أن هناك شبكة كثيفة من الإتصالات يمكن أن تربط أفكار كل البشر، بعضها مع بعض، في حوار ليل نهار، وتتساءلوا إن كانت هذه الظاهرة ستؤدي إلى تطور إنساني كي يتسامى الناس ؟ ثم ما تأثير ذلك علينا ؟
ولأن عيش الإيمان يتطلب منا الوعي العميق بشأن هذه العلامة الخطيرة من علامات الأزمنة، أحاول هنا تسليط الضوء على هذا الموضوع من الجانب الأدبي المسيحي، أستناداً إلى ما صدر من الدوائر الرومانية من بيانات، وخطب، وأحاديث متنوعة خلال السنوات الماضية، تم التركيز عليها في وثيقتين صدرتا أخيرًا عن مجلس الأساقفة الكاثوليك الخاص بوسائل الإتصال الإجتماعية :
التطور الحاصل
هناك الكثير من وسائل الإتصال بين الناس، أصبح بعضها قديمًا أو بطيئًا، حتى إن أجهزة الحاسوب نفسها أصبح الكثير منها،باليًا يُستخدم آلة للعب فقط. ولكن الإنترنت والبريد الالكتروني E-mail يغدو باستخدام الحاسوب أكثرها قوة. فهو ذو تأثير أعظم من البريد والبرق والهاتف والإذاعة والتلفاز وهذا كله يفترض أن يكون في خدمة تقدم الشخص البشري، لأن الإنسان أهم كائن في الكون.
صفات خاصة ومميزات الإنترنت
من الأمور التي يجب الانتباه إليها في الإنترنت، هي تمتعها بصفات خاصة، منها : أمن المعلومات، وملكيتها، وحقوق الطبع ونشر الاباحية والمواقع الحاقدة hate sites والمواقع الباذرة للإشاعات ولعل من أسباب هذه الظواهر : لامركزية الأنشطة وعالميتها، وأنيتها، (أي كون البث مباشر) وتكييفها لكل طريقة بث، وفرصة انتشار سرّي للمعلومات يمكن بها أن تصبح مخدّرا كبيرا للعديدين، وقد تؤدي إلى تعميق الإنعزال، أو العكس، إذ تساعد على الإلتقاء. ان المهارة المطلوبة
للتعامل مع الشبكة، لا تتطلب دورة في الحاسوب
أكثر من اسبوعين مثلاً. ولكن بالمقابل يستطيع
الشخص أن يحقق حضوراً فـي العالم، ويشارك الآخرين
في أفكاره وحسب ذوقه ورغبته !!!
ومن المميزات الأخرى، أن خسارة مخزن الذاكرة في الحاسوب لا تعني فقدان المعلومات بسبب توفر الشبكة النسيجية العالمية world wide web فأصبح أشبه بمملكة من نوع جديد للفرد، فيه حرية تامة. ولكن هنا نتساءل – وفق نور الآداب – أين الإلتزام لاجل ديمومة هذه المملكة ؟ ثم ألا يشيع فيها الإنفلات بسهولة ؟ فقد تصبح شبكة الإنترنت محل ربح تجاري غير مقيد، لا يهتم بقوانين السوق مثلاً. وبالعكس قد تساعد الحالة في تزويد الصور والأحاديث ذات المضامين التربوية والثقافية المؤدية إلى تفاهم الناس في ما بينهم، وخلق قيم مشتركة، والحوار بين ثقافات تتداخل في ما بينها عبر الشاشات، بعد أن تم التداخل أصلاً بسبب الهجرة المزمنة وهنا يمكننا أن نقول إن هذه النتائج بالتالي يمكن ان تساعد في بذر بذور فكرة حضارة المحبة.
رأي الكنيسة
تؤكد الكنيسة على ضرورة الإلتزام بكرامة الشخص البشري، والتراث الطويل للحكمة الأخلاقية الإنسانية عمومًا (والكتابية خصوصا). وإذ إن الإنسان مركز التقييم الأخلاقي، فيُفترض أن يكون هدف شبكة الإنترنت : التطور والتكامل وفق الصالح العام. والفضيلة هي عندما تتضامن جهود الكل لأجل رقي المجتمع، وكشركة حيّة.
إن لشبكة الإنترنت دورًا كبيرًا في مسألة العولمة، حيث يمكن أن تسوقها وتدعمها بحيث تشمل التجارة والإقتصاد، وهكذا تُسهم الإنترنت في زيادة ثروة وإنتاج البعض، وتدمير ثروات الآخرين. كما قد تُسهم في تقديم أفضل الخدمات للعائلة الإنسانية. ولكن لنعلم أن شعوبًا كثيرة محرومة من الإنترنت، ولا مكان لهم فيها، بل أزيحوا جانبًا وهم في طريقهم إلى البطالة والفاقة الحادة.
لقد أدت الإنترنت إلى تغييرات إجتماعية في البلدان المتقدمة، وهذه التغييرات ستهددنا إن عاجلاً أو آجلاً وبعد أشهر فقط !!! لأنها ستكون مثل فيضان يكتسح المعايير الأدبية في العيش، إن كان عبر الثقافة أو العلاقات العامة والخاصة عموديًا وأفقيًا، في وقت يُفترض أن تسهم الإنترنت في خلق حالة التزام إنساني بالتضامن، لأجل الخير العام، وخلق عالم محكوم بالعدالة والسلام والمحبة، وهذا يتطلب من الشبكة أن تعمل بوضوح كامل، أي أن تجعل الشخص يؤمن بأنه لن يسعد ويحيا بسلام دون الآخر، فاليوم كثيرون يعملون متضاددين، رافضين روحانية المشاركة من خلال رؤية العنصر الإيجابي في الآخرين، وكونهم عطية إلهية تستوجب على الجميع أن يحمل بعضهم أعباء بعض (غلا 6/2).
الإنترنت اليوم
تكمن الصعوبة اليوم في القوة القائدة للإنترنت حيث قد توجه العمل نحو صالح الكل أو العكس، فيتوحد الناس أو ينفصلون، وقد تدخل على الخطوط جماعات مريبة، أو عدوانية.
ولعل من أبرز الصعوبات، التقسيم الرقمي للناس digital divide، حيث يُصنف الناس إلى أغنياء وفقراء على أساس أن بعضهم لا قدرة لهم على الحصول أو التعامل مع تقنية المعلومات الجديدة، وهكذا يتم خلق فجوة جديدة بين الأفراد والجماعات، فأصبحت لدينا اليوم : “معلومات غنية” و”معلومات فقيرة” فتؤكد الكنيسة هنا على المساواة في الحصول على المعلوماتية، والفوائد المجتناة منها، وبلغات مختلفة، وأن تكون الإنسانية هي الرابح الوحيد، أي تأسيس عولمة في خدمة تكامل الإنسان.
إن نتائج هذا التقسيم ليست علمية وإقتصادية فقط بل إجتماعية وتقنية وثقافية أيضا. لذلك تطلب الكنيسة غلق كل المنافذ المؤدية إلى ذلك، إذ إن الإنترنت – ضمن العولمة – يرسل ويساعد على غرس قيم ثقافية بخصوص العلاقات الإجتماعية والعائلة والدين، فيفشو بموجبها تعاطي السحر، والبدع، بينما البديل المجدي هو الحوار الثقافي المتبادل، وتعلّم ثقافة من ثقافة أخرى، فلا لإمبريالية الثقافة، ولا لهيمنة ثقافة على أخرى، لأن ثقافة الغرب العلمانية قد تحمل قيما لم تستعد لاستقبالها الشعوب الأخرى، فتخلق مشاكل نتيجة لذلك، وخصوصا في ما يتعلق بالزواج، والعائلة. ولعل حوار الثقافات المتداخل يحمي الثقافات كتعابير تاريخية عن وحدة العائلة الإنسانية في الماضي الماثل اليوم، كي يتواصل في الحاضر لأجل عيش الشراكة الآن وغدًا، وكي يخلق التضامن بين الشعوب.
هنا قد يعترض البعض فيقول إن هذه الامور تربك حرية التعبير، لكننا نقول إن الحرية هي في كونها تخدم طلب الحقيقة بطريقة صحيحة، ولأجل المصلحة العامة أو النفع المشترك، وفي هذا الخصوص تستهجن الكنيسة منعها من الوصول إلى المراجع العليا للإنترنت (public authorities)، أو في سبل أخرى للإعلام والإتصال (media) لأنها تحرج المسؤولين عنها، إذ هم يتلاعبون أحيانا بالناس بدعاياتهم وتشويشهم وعرقلتهم حرية التعبير والرأي، لذلك هم يعتبرون انظمة استبدادية وسيئة ولا ننسى هنا دور صحافة الإنترنت التي قد تعمد إلى الإثارة والمتاجرة بالإشاعات فنتساءل أين الدقة والمرجعية ؟ لذلك على مستخدمي البريد الالكتروني والإنترنت إعتماد الإنتقائية، وضبط النفس، وعدم اللجوء إلى الإنعزالية بحجة عدم السيطرة عليها، وصعوبات نشر عالم الفضيلة في الوسط التكنولوجي.
هنا تطرح الكنيسة تساؤلات : هل جمهور المستقبل هو تعدد جماهيري أصله واحد ؟ وما موقف هؤلاء من التضامن والمحبة ؟ هنا نحتاج إلى حرية في التعبير، ترافقها النزاهة ودقة نقل الأخبار … إلخ.
ولكن الحرية الجذرية (الراديكالية) لا تفيد إن لم تكن في خدمة الحقيقة – الحقيقة التي هي مصدر القيم، وحينذاك، بدلا من طلب الحقيقة بطريقة مثالية سنطلب معيار الإخلاص والأصالة وسلام الشخص مع ذاته، وإلا فما فائدة الحديث عن الجماعة المتأصلة … والنفع المشترك، والتضامن ؟!
الختام
نستنتج مما ورد آنفًا، ان فضيلة التضامن هي مقياس خدمة شبكة الإنترنت. ولكن هل وسائل الشبكة (للإعلام والإتصال) تستخدم للخير أم للشر ؟ وهنا يتحمل الكل المسؤولية. وعلى الوالدين مسؤولية التوجيه والإشراف على إستخدام الشبكة، وتقييم برامجها بعد الإطلاع عليها، ويمكن أن تفرض قوانين يتم بموجبها رفض الأخبار التي تحمل حقدًا على الآخرين، أو تشهيرًا بهم، أو شبكة عمليات الإحتيال والدعارة وسلوك طريق الجريمة، مثل بث فايروسات الحاسبة، أو سرقة البيانات الشخصية. إن الإنترنت ضروري لأجل التعليم الذاتي الأفضل، ولحل مشاكل كثيرة بشرط السيطرة على الوسائل وصيانة الأخلاق. لذلك يجب إعداد عقوبات ملائمة لمن ينتهك ذلك.
إن الإنترنت الذي يتخطّى الحدود ودوره في العولمة، يتطلب تعاونًا دوليًا من خلال غلق التقسيم الرقمي للناس، وتأسيس بنوك معلومات متنوعة تحمي تراث الشعوب الثقافي واليوم يُسهم في ذلك عديد من المؤسسات الدولية.
نشير هنا إلى دور الكنيسة في التعاون مع شبكة الإنترنت، ودور الأخيرة في حياة الكنيسة بهدف إقرار المعايير الأخلاقية المشتملة على القيم المسيحية.
يمكن للشبكة، إذن، أن تسهم في الحياة الإنسانية لأجل الإزدهار والسلام والمثاقفة والحوار بين الناس، ومساعدتهم ليجيبوا عن الأسئلة الخالدة : من أنا ؟ من أين أتيت ؟ إلى أين سأذهب ؟ لماذا الشر في العالم ؟ هل هناك حياة بعد هذه الحياة ؟ حيث يجد الناس الأجوبة عن هذه الأسئلة بواسطة السيد المسيح الذي قدّم ملكوت الخلاص للبشر، ويمكن لعالم الإتصالات والإنترنت أن يخدم الكلمة التي خلّصت العالم فلا نقلل من شأن ما يحصل اليوم، إذ إن نمو الجسد البشري بهذا الشكل اليوم، ربما سيكون تمهيدًا وإنذاراً بتوقع الأرض الجديدة – كما نقرأ عن ذلك في سفر الرؤيا.