الشوق الى ماذا؟

خلال زيارات وفود الكليات الى المطرانية تم التطرق الى موضوع الإلحاد الذي يطرق بابه الى حد ان العديد من المنظمات ومستطلعي الأراء يصرحون ان ثلث الشباب في الجنوب (خصوصا) لديهم شيء من الإلحاد النظري او العملي او الإثنين معا. اذا الى اي شيء يشتاقون؟

نعلم ان للإنسان ثلاثة ابعاد: التدين والمثاقفة والإيمان، وهذه تتفاعل معا. والديانة كسعي نحو التسامي يفترض ان تتطور مع تطور الحياة دون ان تترك مباديء الإيمان والا ستتحجر ويهجرها تابعيها، فحتى الأدوات الثقافية تتغير مع الزمن؛ هل طعامنا هو هو منذ القديم، هل كلماتنا هي هي لم تتطور، هل مناسباتنا لم تتجدد، هل الحاننا وحكاياتنا وغيرها. ان لم يكن هناك تجديد فلا معنى للإبداع. لكن المهم القيم فهي جوهر الشيء، خصوصا الإلهية: توخي العدالة، تلمس الحقيقة، اعمال الرحمة، عمل الخير، رؤية الجمال من حولنا. القيم من كلمة قيمة اي جعل الشيء له قيمة. حتى الحضارة لها قيم ونقول احيانا جوهر او لب وهي قيمها. ان لم يؤمن الشخص بوجود الله ليؤمن بالإنسان اخيه ورفيق دربه!

يقول الباحث هربرت سبنسر ان عدم قبول ديناً ما معناه عدم الرضى بحلوله لمعظلات المجتمع، ولكن هناك رغبة في نفس الوقت في ايجاد حل آخر ولكن دون جدوى.

بأي روح يتم النظر الى المعظلات كي نتبصر الحل؟ هناك وجهات نظر عديدة، ولكن هنا نؤكد اهمية الإيمان كعطية الهية مجانية وعلاقة شوق رغم صعوبة فهمه لدى العديد من المتأثرين بافكار مشوشة خصوصا من يقول ان العلم والإيمان لا يتلاقيا. ولكن نقول دائما ان العلم والإيمان هما مثل سكة القطار لا يستطيع ان يسير على سكة واحدة. الإيمان يساعدنا على الإنفتاح برحابة صدر على تحديات العصر والعمل الجماعي والثقة في عناية الله. الإيمان يدخلنا مدرسة المحبة والحكمة في وسط مجتمع يحزننا باحداثه المؤلمة كل يوم.

يدعي العلماء ذوي التوجه الإلحادي ان الحقيقة ملك العلم، لكن هنا تكون الحقيقة نسبية بسبب الحواس والإختبار. ولكن الا توجد حقيقة تعرف من خلال الضمير او الحدس او التعليل او الشهادة؟ كما ان الجنس البشري ضعيف بدليل انه لا يستطيع مكافئة من يعمل الخير دائما ولا ان يعاقب الشرير دائما. الم يخطيء صالبوا المسيح؟ الم يخطئ مخترع فايروس كورونا؟ اين الشوق الى الحقيقة؟

البشر ان كانوا مثقفين ام جهالا، فنانين ام ادباء، علماء في المادة ام روحانيين، كلهم لا يستطيعون اقامة الدليل على وجود ما يؤمنوا به ان لم يروه. ولكنهم مع ذلك يؤمنون لتشوقهم الى التوغل في عمق الأشياء، هنا المفارقة. فمثلا الرياضيون يؤمنون بقواعد الرياضيات ولكنهم لا يروها. واختصاصيوا الكيمياء او الجيولوجيا كذلك، فجيولوجي النفط يتوقع وجود النفط وشركته تصرف ملايين الدولارات وفعلا كثيرا ما يتدفق النفط بغزارة. وهكذا مع الكيميائي الذي يؤمن بالأثير، والفلكي الذي يؤمن بوجود نجوم بعيدة جدا. كما ان عالم الزلازل يؤمن بوجود انشقاقات في القشرة الأرضية على عمق كيلومترات دون ان يراها. ويكفي الجاذبية الأرضية، هي موجودة ولكن غير مرئية.

اذا نحتاج الى البحث والشوق الى اكتساب المعرفة، فالجهل احد اعمدة الشر. وحب المعرفة هو اساس الفلسفة. والفلسفة مهملة في العالم المادي اليوم للأسف بينما هي باب نحو الحكمة التي تبني الشخصية.

ان ابواق دعاية الحضارة المادية اليوم تظلل الناس بأنه عليهم التركيز على الجسد وعبادته ثم الرضى عن النفس ولا مجال للروح، لذلك كثيرا ما يلاحظ ان البعض يقولون انهم ليسوا بحاجة الى قرين (زواج رسمي) او مشورة أب او مشورة الكنيسة او اكتساب معرفة. كان الفيلسوف سقراط يقول: أضر الأشياء بالإنسان رضاه عن نفسه. ان اعلم الناس هو من يعترف بتقصير مداركه. لذلك كانت شعوب العالم تنتظر المخلص:

الصينيون كانوا ينتظرون بشوق الها ينزل من السماء،

الهنود تشوقوا الى تجسد براهما ليقتل الحية كاليكا ويخلصهم،

اليابانيون تشوقوا  الهاً يعلمهم،

المجوس تشوقوا  اله مترا سينتصر على اهريمان،

في مصر وافريقيا قبل ظهور المسيحية تشوقوا  من هورش البطل ان يقتل الحية،

في امريكا القديمة تشوقوا  من بورو ان يقتل التنين،

كونفوشيوس انتظر شخصا عظيما يعيد الفضيلة،

افلاطون انتظر بشوق رسولا من السماء ليعلم البشر،

سقراط انتظر حكيما مصلحا،

شيشرون انتظر ملكا الها منظورا يحكم بالعدل،

الأوروبيون قبل الميلاد انتظروا ان ترسل ايزيس ابنها لخلاصهم.

هذه تدل اولا على تواضع البشر وحاجتهم الى الآخر وحبهم للمطلق والتسامي نحو حياة افضل بعيدا عن العبودية للمادة وللوياثان. هؤلاء اعترفوا بان مداركهم تشتاق الى الكائن الأعظم، بأن تدينهم لم يشبعهم، بأن ثقافاتهم تنتظر الجديد.

كي تتقوى مدارك البشر عليهم اولا بتعلم تنظيم الكلام منطقيا بدل الفوضى اليوم، ان يتعرفوا بوعي الى علم الأخلاق وآداب الحياة كي يميزوا بين فكرة خيرة واخرى شريرة ويجنحوا الى الخير، ان يضفي الجمال على افكارهم وافعالهم، ان يحاوروا من هم في رحلة العمر معهم، ان يفهموا انفسهم كما كان سقراط يتشوق الى ان يرى انسانا فيشعل شمعة في النهار ويسير في شوارع اثينا ويقول: افهم نفسك.

ولقد ابرزت آيات العهد القديم لدى بني اسرائيل عظمة الشوق لديهم الى الله فاذكر ثلاثة فقط وردت في كتاب المزامير:

“كما يشتاق الآيل الى مجاري المياه، هكذا تشتاق نفسي اليك يا الله”

” ذابَت نَفْسي شَوقًا إِلى خَلاصِكَ فرَجَوتُ كَلِمَتَكَ.”

” فتَحتُ فَمي وتَنَشَّقتُ لأَنَّي إِلى وَصاياكَ تَشوقتُ.”

لقد اشتاق اليهود الى مخلص يجدد طبيعتهم القديمة المحطمة، فكان الكلمة (المعرفة الإلهية) اللوغوس التي نادى بها افلاطون وولد يسوع فأمنوا انه الله معهم وسموه يسوع (الهي صخرتي) وعمانوئيل (عمن=معنا+ئيل=اله). كيف لا يشتاقون اليه فالمقاتل يشتاق الى صخرة يحتمي خلفها من سهام اعدائه، فصار الله صخرتهم. واليوم المسيحيون وكل عشاق المسيح كذلك .

كان يسوع وهو شاب ايضا يشتاق الى ان يولد البشر مرة ثانية. وعبر عن شوقه عدة مرات عندما جاء اليه نيقوديموس في الليل وفي مناسبة الفصح عندما التقى بتلاميذه وفوق جبل الزيتون وهو ينظر بألم الى اورشليم راجمة الأنبياء وقاتلة المرسلين اليها.

فما نحتاجه هو الإيمان والإقتداء به كي نعود ابناء الله. حينذاك نحتفل معا بالفرح لأنه فرحنا، نصلي معا ونتقاسم تفاصيل الحياة في الحلو والمر معا، وندرك بعمق اننا متحدين معه بالروح والحق فهو الألف والياء البداية والنهاية هو الطريق والحق والحياة، هو الباب الى الحياة الأوفر. المسيح فجّر حرية المحبة حتى للأعداء، حرية العطاء، عطاء ما هو اصلا من نعم الخالق. ان اشتياق الشعوب المذكور اعلاه كان لقوى مجهولة، بينما المسيح جعلنا نعرف الله كأب محب.

الله هو الشوق الوحيد لقلوبنا وبواسطته نؤسس علاقاتنا مع الآخرين. يقول المتصوف الروسي المترابوليت انطون بلوم: “الحقيقة إننا نستطيع اللجوء للآخرين من خلال اللجوء إلى الله، ففيه فقط تكون علاقتنا مع الآخرين قد بلغت عمقها المناسب. كي نحب الآخرين ونحترمهم كما تتطلب المحبة، يجب أن نعترف بعلاقتهم الخاصة مع الله. فالله يدعو كل شخص بمفرده ويضع الشوق في قلبه، ذلك الشوق إلى الله الذي هو امنية حقيقية لكل شخص، ولكن قبل أن نشاهد ذلك في الآخرين علينا أن نجدها في أنفسنا.”

المطران حبيب هرمز