الحب فوق كل شيءللأب المرحوم يوسف حبي لمناسبة الذكرى 23 لوفاته
سيظل البعض محتارين بين ايلاء الاولوية للحق او للحياة او للحب.مدارس فكرية عديدة اجتهدت في هذا المسار او في المسار الاخر، ويصعب ان يتفق الجميع على رأي واحد، فالقضية اكثر عويصة مما قد نظن للوهلة الاولى، وخاطرتنا مغايرة.هذه المقولة، الاشارة، الومضة، من الامور التي لا يمكن ان يتاكد منها الا من اختبرها. لذا رفعت الشعار واعطيته لصديقتين خطاطتين فكتبتاه بحرف رائع، هو ” حياة، حق، حب “.لو قيل للحصان ما فردوسك، لطلب مرعى يرعى فيه الوقت كله. اما الانسان فلا يشبعه ذلك.
حين كنت في جنوب فرنسا ازور مغائر متكلسات ومتحجرات، ودليلنا يجهد النفس في ايضاح الاشكال بتشابيه روائع معمارية او طبيعية او فنية معروفة، اذا بصوت يقول: “وهذه افخاذ عجول”. التفت فاذا به شخص بدين، سالته عن مهنته، فكان قصابّا ! طبيعي ان يرى الاشياء بمنظار تعوّد عليه سنين! والمسالة اكثر. اذن لماذا الحب، والحب بالذات ؟ما يميز الانسان عن الكائنات المخلوقة الاخرى انه عاقل. فالفكر هو المميز. ولكن بوسعك ان تعرف كثيرا، وتمتلك معلومات وعلوما شتى، وتكون اشبه بوحش في تعاملك وحياتك. بينما تشدّك امّ لا تعرف من العلوم والمعارف الا لماما، لكنها تسحرك بطيب قلبها وعذوبة كلامها ودماثة خلقها وحرارة حنوّها.ليس انتقاصا من العلم والمعرفة، ولا تمجيدا للعواطف والاحاسيس، بل اشارة ضوئية تمنح الذات وهجا يبعث اشراقة حياة في وجود قد يظل وهما او يمسي كابوسا. الحب وحده هو الاشراق. الحب هو الحياة.ان شئت اختباره كل يوم، يمكنك أن تلقاه في ردّ فعل طفل فهو سيدنو منك ويمكنك ان تلاطفه ان انت “احببته، والا فلا…
ليس الحب توهج احاسيس تستعر لحظات ثم تخبو بفعل تقلبات الحياة. ليس الحب عاطفة مشبوبة تحرق كل شيء، فلا تبقي على الفكر والمبادىء والقناعات والقرارات المهمة، او تحرق المراحل، فلا يهدأ الطعام على نار تعطيه نضجا ومذاقا. وليس الحب “انا وانت”، وليذهب الجميع الى الجحيم، وحتى العمل، والقيم. الحب وهج يضفي على الوجود كله نورا، لونا، ذوقا، وروعة جمال.الحب مصل دم ينفح الكيان حياة، دفئا، صحة، ومسحة جمال. الحب ماء حياة يمنح الذات رواء، عذوبة، وسمة جمال. والحب رسالة، ومشروع، والتزام. به يحقق الانسان ذاته. ولا تحقيق للذات بغير الحب.الحب وعي. ومن الخطأ الكبير ان تعتبر الحب غير ذلك. الحب الاعمى لا وجود له. للحب عينان، بل اعين كثيرة، بل كل الاعين. انه بصير، متبصر، مستنير. اما ذاك الاعمى، فلا تطلق عليه اسم الحب تجاوزا. ان اسم الحب سام وعطيم، بل لا اهم واجمل من الحب.حين تعرف الحب، تنفتح سماوات النور بسائر الابواب والمنافذ، بل الابعاد والافاق. وحين تفقد الحب، تسوّد الدنيا حزنا، وتنقلب حتى نجوم الليل فحمات مخيفة. لكنه ليس حب القلب وحسب، انه حب يشمل الذات بجملتها. لا تدع التجزئة تنخر ذاتك، ولا تسمح للانفصام ان يشوّه شخصيتك.
كن موحدّا، فالواحد هو الاهم. وحبك لن يكون صحيحا الا اذا كان جامعا، شاملا، موحّدا، يغمرك بكليتك كما تغمرك مياه البحر العظيم. وحده الحب لا يقاس. فلا تستخدم مقاييس ناقصة، ومعايير ضعيفة، ومكاييل مادية تفعية. ستقول : والفكر كذلك. لكنه الحب العميق : فكر، وعي، نضوج، وامتلاء. وهنيئا لمن يعرف ان يمخر بحر حب لا قرار له، ويسير في دروب انوار لا تعرف النهايات، ويشرب من مياه حيّة لا تروي الا بقدر ما تحيي، وتذكي، وتنمي.يسيل لعاب الطفل ازاء كعكة طيبة، وترتخي اعصاب الشباب حين يسمعون كلمة حب ويرتاحون اكبر الراحة، وتقطر المشاعر عسلا في مواقف الحب الكبير. ويطل الحب اكثر من هذا كله. انه لا يوصف، غير محدود، ومطلق.يظن المرء كل يوم انه بلغ المطلق في الرياضيات والعلم، وحتى في الفكر والمعرفة، لكنه ما يزال بعيدا جدا عن المطلقية.
المطلق هو المطلق، وما يقربّنا منه هو مدى الفكر وعمق الحب، شرط ان لا نبلغ تحديدا معينا، فلا نتوقف، ولا نكتفي. وسمة الحب الاساسية: عدم النوقف وعدم الاكتفاء. وعدم التوقف، يعني السير ابدا في درب رائع يعرض علينا الجديد كل لحظة، وعدم الاكتفاء يعني ظمأ ابدي وجوع دائم واستزادة تملا الذات نضج خلود.للحب خاصية عجيبة انه مطلق، متى كان حقيقيا. وهل اهّم واروع من المطلق؟ ان كان الفكر والتفكير يفتحان الانسان على المطلق، فقد يتحدد كل هذا لدى البعض، اما في الحب فالمطلقية بيّنة وملموسة بنوع اكبر. ليس من حب صحيح وحقيقي الا ويكون عميقا، وليس من حب عميق الا وهو مطلق. ومتى بلغ المرء مطلقية الانفاس، تحرر من كل تفاهة، وقيد، وفناء.الحب كل شيء او لا شيء، اذ ليس هناك نصف حب او قليل من الحب. اي حب حقيقي عميق هو دوما الكل في الحياة. لذا عليّ ابدال العنوان، بل المنطق، فالحب ليس “قبل ” و “بعد” و “اثناء”، انه ” دومــا ” و ” ابــدا”. وفي هذا تكمن عظمته المستمدة من حقيقته. لذلك فهو الكل في الحياة.