المسيح في عرس قانا الجليل

المسيح في عرس قانا الجليل

الأب سالم ساكا

أراد الربُّ يسوع أنْ يدلَّ من خلال الآية التي قام بها أثناء عرس في قانا الجليل، حيث كان مدعوّاً إليها هو وأمَّه وتلاميذه (يوحنا2/1-11)، أراد أنْ يدلَّ على سموِّ سرِّ الزواج وأساسه الإلهيّ، والذي رفعه من عقدٍ أو رباطٍ بشري كما كان عليه في العهد القديم، رفعه إلى سرٍّ يقوم على ارتباط إلهيّ في العهد الجديد. 

لذلك من خلال آية عرس قانا الجليل، نحن مدعوّون لنكتشفَ حضور الربِّ يسوع- الله وعمله حتى في رتابة حياتنا اليومية وخاصَّة الزوجيَّة منها. فيسوع في هذه الآية يُحوِّل الماء الذي كان يُعدّ أصلاً لغرضِ الغسلِ والتَّطهير “الناموس، الشريعة” (تكوين18/4)، يُحوِّله إلى خمرٍ “النعمة، الفرح، الحياة الأبدية”، رمز تحوُّل العهد القديم إلى العهد الجديد، بواسطة وشفاعة الحواء الجديدة، مريم، التي منها أخذ جسداً ودماً وصار بشراً مثلنا “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يوحنا1/14).

الآية الأولى حسب إنجيل القديس يوحنا، التي يُتمُّها يسوع محبَّةً بأمِّه وإكراماً لها، والتي أضحت من خلالها الوسيطة بين إبنها وأهل العرس، وبالتالي وسيطة لكلِّ إنسان في أوقات الأزمات والإحراج، حيث تَحوَّل الإحراج والحزن إلى رخاءٍ وفرحٍ، وكلّ نقصٍ وعوز إلى فيضٍ ووفرة.

يرمز الخمر في الكتاب المقدَّس إلى الحياة والفرح “وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق” (اشعيا25/6، راجع أيضاً، يوئيل4/18، مزمور104/14-15، إرميا2/21، حزقيال15/6، هوشع10/1)، لكنَّ رتابة الحياة اليومية التي يمرّ بها الزواج غالباً ما تجعل هذا الفرح ينفذ كما نفذ الخمر في عرس قانا الجليل.

إنَّ الحياة الزوجيَّة عندما تواجه الأزمات والتعثُّرات تصبح بحاجةٍ ماسَّة الى تَدخُّل الله وشفاعة مريم لا محال. كما رأينا في عرس قانا الجليل، وذلك من أجلِ فيض الفرح ووضع الأمور مرة أخرى في إطارها الإلهي الصحيح. إنَّ سرَّ الزواج هو أسمى وأخطر مشروع يمكن أنْ يُقدِم عليه الإنسان، والسبب بكلِّ بساطة هو أولاً: لأنَّه يشمل جوانب الحياة كلِّها، النفسيّة، العاطفية، الجسدية والاجتماعيَّة. ثانياً، أنَّه سرٌّ سامٍ ومُقدَّس إذْ من خلاله يشترك كلٌّ من الزوجين في عملية الخلق التي بدأها الله نفسه (تكوين1/28). وثالثاً، تكمن خطورة الزواج بأنَّه ليس من الأمور المضمونة، إنَّه سرٌّ يقود كلاًّ من الزوجين نحو المجهول، فيكون مصيره إمّا النجاح وإمّا الفشل. مع ذلك بإمكاننا أنْ نقول، من خلال آية عرس قانا الجليل، أنَّ الزواج يمرّ في ثلاثة مراحل متتالية وهي: المرحلة الأولى، هو الفرح الذي يرمز إلى الخمر، فكلُّ زواج يبدأ بالفرح وبالإندفاع والدهشة، لكن رتابة الحياة اليومية والضعف البشري ومحدوديَّة الإنسان كثيراً ما تجعل هذه الأمور لهذا الفرح أنْ ينفذَ ويُستَهلك كما نفذ الخمر من أهل العرس في قانا الجليل.

المرحلة الثانية: خيبات أمل، أي المرحلة الحرجة، ففي هذه المرحلة يكتشف كلٌّ من الزوجين نقائص الطرف الآخر وسلبياته، كما يكتشف أنَّ هناك ألغاز وشفرات تخفي الكثير ممّا في شخصيَّته. لذلك في هذه المرحلة يجب أنْ يعرفَ كلٌّ من الزوجين في أنْ يتخطّى شعوره وأحكامه تجاه الشريك الآخر، وهو مدعو لأنْ يدركَ بأنَّ الآخر يبقى دائماً سرّاً ولغزاً لا يمكن سبر غوره “أَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ” (1كورنثس2/11). ثمَّ تأتي المرحلة الثالثة: وهي الإلتزام، أعني الإرتباط بــ “النعم” التي قالها كلُّ طرف من أطراف الزواج أمام الله وأمام مذبحه المقدَّس وأمام الكنيسة، شعب الله. إنَّ الحبَّ في الزواج هو قرارٌ لا يمكن تحقيقه دون الإلتزام الشخصيّ، فهو ليس حاجة نقرِّر أن نرتديها اليوم وغداً نقرِّر أنْ نخلعها عنّا لنرتدي أخرى عوضاً عنها.

إنَّ الحبَّ في الزواج لا ينمو إلاّ على تربة الإيمان الراسخ، الثابت، والثقة الوطيدة وليس على الثقة البشرية الضعيفة والمحدودة “إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ” (مزمور127/1). إنَّ عكس الإيمان ليس الإلحاد بل الخوف، وكم من الأشخاص من كلا الجنسين في أيامنا هذه يخافون من المغامرة في الحبِّ والمجازفة به، لأنَّهم يبنونه على مقاييس أو معايير بشرية واهية. إنَّ الإرتباط بالزواج لا يريد إلاّ الإستمراية والديمومة. إنَّه إرتباط وعهد أبدي. تماماً مثل العهد الأبدي المتبادَل بين الله وشعبه، والعهد الأبدي المتبادَل بين المسيح والكنيسة. إنَّ هذا الإرتباط ليس رباطاً طبيعيّاً، بل له بُعد إلهيّ يجب بناءه يوماً بعد يوم، وهو يقوم على العطاء المتبادَل بين الزوجين. هو نعمة مجانية، يُدخلنا في عالم التَّضحية، التي هي إحدى أهمّ مقوِّماته الأساسيَّة، إذْ لا حبّ حقيقي دون التَّضحية وبذل الذات من أجل الآخر “أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ” (آفسس5/25-27).

إنَّ الحبّ الزوجي هذا وبهذه المواصفات والشروط هو الثمن الذي يجب أنْ يدفعه الزوجان. نعم، إنَّه مستحيل بين البشر، لكنَّه ممكن عند الله “فَقَالَ لَهُ تَلامِيذُهُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَةَ الزَّوْجِ مَعَ الزَّوْجَةِ، فَعَدَمُ الزَّوَاجِ أَفْضَلُ.  فَأَجَابَهُمْ: هَذَا الْكَلامُ لَا يَقْبَلُهُ الْجَمِيعُ، بَلِ الَّذِينَ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ” (متى19/10-11). إنَّ مقياس الحبِّ هو الإيمان المطلق بكلمةِ الله التي هي كلمة مُعطاة لا رجوع عنها “فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ. وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ” (لوقا5/5-6). هذه الكلمة، كلمة الربِّ، تبقى الضمانة الأساسيَّة لسرِّ الزواج هذا. إنَّ هذا السرّ لا يمكن فهمه على المستوى البشري لأنَّه يبقى سرّاً يفوق تفكيرنا وإدراكنا “إنَّه لسرٍّ عظيم” (آفسس5/32). إنَّ قوة الحبِّ في هذا السرّ تأتي من الله وحده، فلا أحد يمكن أنْ يُحبَّ إلاّ إذا كان الله يعمل فيه. وهذا ما كان يُردِّده المسيح في إنجيل يوحنا: “فإنَّكم بمعزلٍ عني لا تستطيعون أنْ تعملوا شيئاً” (يوحنا15/5).

إنَّ الطريق الأقرب إلى الله في هذا السرّ، يعبر في حبِّ الإنسان الآخر. عليك إذاً أنْ تُحبَّه وتقبله كما هو وتعتني به وتصبر عليه، آنذاك تلتقيان معاً في الله. فمَنْ يُحبّ وحده يستطيه أنْ يعرف الله (1يوحنا4/8).

إنَّ أزواج اليوم مدعوّون ليتأمَّلوا بما هو مفهومهم للزواج المسيحي، ويفهموا جيداً عبارة المسيح هذه: “ما جمعه الله لا يُفرِّقه الإنسان”، ويعوا أنَّ الزواج خارج إيمانهم المسيحي يُضحي حجر عثرة لا يُمكن عيشه أو فهمه. وليدركوا أنَّ عدم نجاح بعض الزواجات يعود سببها إلى جهل هذا البُعد الإيماني الذي يُشكِّل المرجع الأساسي لهذا السرِّ المقدَّس.