انقسام الخلية للحياة وانقسام المجتمع للموت

المطران حبيب هرمز

       يقول القديس اقليمس الأسكندري: ان رأيت أخاك، رأيت الله. وهكذا كنّا في رحلتنا الى كنائسنا المنسية في عقرة عندما نرى الأطفال يحيطوننا وكأننا نزلنا من المريخ. ولكن الى حين فقد كان مشهد خلع الصليب من قبة كنيسة، واستخدام هيكل كنيسة ثانية كمخزن لعلف الحيوانات في عقرة مؤلما، وفي كنيسة اخرى قبر في السكرستيا تم نبشه وبعثرة عظامه. ان هذا هو نتيجة ما يعاني منه الكثير من العراقيين من الجهل؛ هذا الجهل الذي هو مملكة الشيطان حسب قول البابا فرنسيس. انه جهل في العلاقة مع المختلف، في الحياة الجماعية المشتركة على نفس التربة حيث الكل يتناول من نفس ثمار الأرض ويشرب من نفس مياهها ويستنشق نفس هوائها ويلتقون كل يوم لكن يجهل الواحد الآخر اما لأسباب تربوية او عقد دينية او تعصب وتكبر واستهزاء وغيرها.

هذه من ثمار الإنغلاق والتقوقع نحو الأنا الضعيفة. هي علامة ضعف عندما الإنسان لا يستطيع قبول الآخر او الإنفتاح نحو الجديد لأن الجديد مخيف في وقت قد يكون حياة له.

الجيل الحالي يتحمل المسؤولية امام الله لأنه لا يبالي تجاه اهمية التربية والتعليم حيث تقول الأحصائيات ان هناك 12 مليون شخصاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة. هذا في وقت الغرب يعتبر اميا من لا يتقن استخدام الحاسوب. اين التعددية الثقافية والدينية اذا؟ لماذا ندعى اولاد ابراهيم عدا كوننا اولاد آدم وحواء؟ يبدو انها مجرد كلمات تتبخر في الهواء الذي فسد في بلدنا بعد عقدين من النكوص في كل مناحي الحياة. هذا رغم نفحات الروح التي تهب حيث تشاء وترمم ما كان فسد.

ان ما يحصل في مجتمعاتنا من انقسامات ورفض للآخر هو توجه نحو العدم، وهذه تتناقض مع النظرة الحقيقية للحياة. انه نتيجة النظر الى الأسفل حيث لا نرى سوى اقدامنا. فعندما زار البابا فرنسيس اور قال كونوا كإبراهيم الذي بينما كان يسير على الأرض كانت عيونه شاخصة نحو السماء. ابراهيم شعر بحب الله له، هذه المحبة التي دعانا الخالق اليها هي دعوة لخروج الإنسان من داخل شرنقته وعمل علاقات انسانية تزرع بذور الملكوت. لكن السؤال كم بقي من ايمان ابراهيم؟ ربما سوى قشور لا تفيد حتى من يدعي الإيمان.

العراقيون بإنقساماتهم لا فقط يسحقون انفسهم ولكن حتى يهينون ارضهم المقدسة ويحطموها، وعبارة “تَحَطَّمي أَيَّتُها الشُّعوب وأنسَحِقي” التي خرجت من فم النبي اشعيا لشعوب الشرق الأوسط كانت بسبب الإمبراطورية الآشورية (طالع الفصل الثامن من سفره). هذه الإمبراطورية استغلت انقسامات اسرائيلية داخلية مشابهة لما يحصل اليوم لنا، فالنبي كان يركز على خيانة بني اسرائيل لعهد الله اكثر من تأثير الغزاة، وكم من خيانة في مجتمعنا المحلي: خيانة من يستهزأ بتربية اولاده، خيانة من يكرس نفسه كرجل دين ممثل للمسيح ويقبل رشوى حفنة الدولارات ويبيع اخيه المكرس، خيانة من يحتل ارض الآخرين بقوة السلاح ويقول انا اعلى من القانون، خيانة من لا يبالي بتربية الجيل الجديد.

      ان من هم خارج البلد يستغلون تعبيرنا العاطفي عن حب الدين أو القومية أو الأرض ونسياننا دور العقل، وهذا خطر. لذلك صرنا مصدر استهلاك ادوات حضارة الموت باستهلاك الأسلحة والمخدرات واستعباد المرأة والطفل. هذا في وقت يفترض ان يكون الحب هو القوة، وهذه القوة يفترض ان توحد لا تقسم.

     اما ما يحصل لنا اليوم هو انقسام العراقي بشكل يضادد ما حصل له كانسان في رحم امه. ففي رحمها كانت انقسامات الخلية بهدف بناء كائن انساني واحد، اما ما يفعله العراقيون من تقسيم وتفريق فهو  مؤلم جدا لأنه علامة تدمير الذات والمجتمع.

      يقول الفيلسوف كانط ان الإنسان بحاجة الى العقل والحرية كي يتحضر، ونحن يتفشى في اوساطنا الإستخفاف بدور العقل وسوء فهم الحرية. صحيح نقول ان القوانين في العراق موضوعة على الرفوف ولكن يفترض ان الإنسان هو يصنع القانون في حياته اليومية لا العكس، فاين الضمير الشخصي؟

      كنت اتمنى لو تعلمنا من دروس التاريخ الإيجابية، فحتى شعب جنوب العراق الذي تركه ابينا ابراهيم ولم يرضى عنه، بدأ بعد غزو العيلاميين وتوحيده من قبل حمورابي. هذا الشعب آمن ان الإله له عين تحمي شعبه. فحسب اللغة البابلية القديمة تعني بابل عدة معاني منها انها (بؤبؤ الإله)، اي ان عين الإله تحمي مملكة بابل. فكم بالأحرى نحن الذين ندعي اننا نعبد الله الواحد القوي، ولكن لا نستطيع تحمل بعضنا البعض ولا نبال بكرامة الشخص البشري. انها حياة الإنسان القديم الفاسد حتى له ملك احدث سيارة وموبايل واكبر رصيد في البنك لكنه ميت.

      يقول غاندي “ان المستقبل هو ما تفعله اليوم.” وكي يكون لنا رجاء لدينا دعوة ان نميت الإنسان القديم. فالعديد من ابناء الوطن لا يريدون تمزيق الشرنقة التي يسجنون انفسهم فيها كي لا يتحملوا مسؤولية الحياة الجديدة. ولكن لنتأمل عندما تخرج الدودة من الشرنقة كيف تشعر بألم ولكن عندما تطير نحو الأعالي كحشرة جميلة تحقق الهدف من خلقها.

      ان هذا يتطلب زلزلة عقولنا كما كانت الزلازل تحصل في كل حدث انجيلي مهم. وكمثال من الإنجيل لدينا الزلزلة عند دخوله الى اورشليم ليعلن تطهير الهيكل، والزلزلة عند حدث الصلب والقيامة. وهكذا كلها دلائل على ان الجديد يتطلب زلزالا داخليا في العمق كي يتخلص العراقيون من قشورهم ويظهروا جوهرهم ان كانوا فعلا ابناء ابراهيم وعيونهم نحو السماء. من الضروري ان يزلزلوا انفسهم ويتخلوا عن طبيعتهم المائتة ويخرجوا من شرنقاتهم ما دمنا في الوقت الضائع قبل فوات الأوان.

في حادثة صلب المسيح لم يكن الصليب في الحقيقة علامة عار او فشل بل لعودة الخرفان التائهة في برية العالم الى الآب السماوي، وكم من خرفان وماعز اليوم تائهة في حالة مزرية بائسة. فبالصليب انتفض يسوع وتخلى عن مجده ليخلص البشرية.

ان ما يفيدنا كعراقيين ليس القوة بالمال والسلاح بل قوة العقل والحب مادام الله صابرا على خطايانا ولم نفنى بعد.