تأمل في سفر المزامير

سفر المزامير

عن الأب بيتر حنا

مقدمة

نجد في الكتاب المقدس الشّعر الغنائيّ الذي يصل الى ذروته في “مزامير” داود النبي وغيرها من المزامير. وقد تسلّمت الكنيسة من العهد القديم كتاب المزامير كوديعة ثمينة تسمو بالنفس في سحر الاناشيد والانغام وآلات الطرب، مصحوبة بدعاء وحرارة المتّقين لله، في السّرّاء والضّرّاء. وأحبّ الشعب المؤمن ان يتلو المزامير المئة والخمسين وحفظها عدد منهم عن ظهر قلب.

كيف نفهمها وكيف تكون ردّة الفعل عندنا امام أناشيدها وما تحويه من نبوءات وأدعية، أدعية للمترنّمين وعلى الآثمين، ومودّة أو فتور يبلغ حدّ الغضب على الاعداء ؟


1- قراءتنا المسيحيّة للمزامير هي اقتداء بقراءة السيد المسيح ورسله لها

تذكر الاناجيل، ولا سيمّا مرقس (14: 26)، ان السيد المسيح ورسله “سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون”، بعد العشاء السّرّي، وتعني الكلمة “سبّحوا” انهم، وفقاً لطقوس الفصح العبري، تلوا مزامير (الهاليل) 113- 118. ويمكننا ان نكون على يقين من انّ السيد المسيح تلا المزامير مناسبات أخرى.


يبدو أنّ الامّهات المؤمنات كنّ يعلّمن اولادهنّ، منذ نعومة اظفارهم، ان يتلوا قبل النّوم، الكلمات المؤثرة: “يا رب، بين يديك استودع روحي” (31: 6). واستشهد المسيح المصلوب بهذا النصّ قبل ان يلفظ الروح (متّى 27: 46) استشهد السيد المسيح المصلوب بالمزامير، جاعلا من الصراخ الذي انطلق من كاتب المزمور الثاني والعشرين صيحة مدوّية كانت لسان حاله في آلامه المبرّحة على صليب العذاب والفداء: “الهي الهي لماذا تركتني؟” (22: 2)  ومن المهد إلى الجلجلة كان يسوع يصعد الهيكل ويتلو المزامير مع الشعب المؤمن.


ويذكر القديس لوقا في نهاية انجيله أن المسيحيين الاولين، بقيادة الرسل والتلاميذ، كانوا كلّ حين في الهيكل “يسبّحون الله ويمجّدونه” (لوقا 24: 53)
ويكتب بولس الرسول: “متى اجتمعتم ولكلّ واحد منكم مزمور أو تعليم أو وحي، فاصنعوا كلّ شيء للبنيان” (1 قورنثس 14: 26). وكتب إلى أهل أفسس: “تحاوروا فما بينكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحانية، منشدين ومرتّلين في قلوبكم للربّ” (5: 19). وإلى أهل قولسّي: “انصحوا بعضكم بعضا بكل حكمة وبمزامير وتسابيح واناشيد روحانية” (3: 16). امّا القديس يعقوب 5: 13 فيقول: “هل فيكم محزون، فليصلّ. هل فيكم مسرور، فلينشد” (اي ليسبّح الله بالمزامير وغيرها من الاناشيد التقويّة). ونقرأ في اعمال الرسل (16: 25) انّ بولس وسيلا كانا يصلّيان ويسبّحان الله في منتصف الليل. وبشكل عام تعني عبارة “سبّح الله” تلا المزامير أو أنشدها، بما ان المزامير تدعى بالعبرية (تهيليم) جمع (تهيلة) اي تسبحة.

2_  كتب العهد الجديد ترشدنا الى القراءة المسيحيّة للمزامير


استشهد السيد المسيح ورسله وتلاميذه بالمزامير. ومن الاكيد انها تستشهد بسفر المزامير اكثر من استشهادها بأيّ كتاب آخر من العهد القديم. لذا نقدر ان نقرأ، نحن معشر المسيحيين، سفر المزامير وأن نفسّر العديد من آياته كنبوءات عن المسيح والكنيسة، ويكون تفسيرنا “شرعيّاً” اذا جاز التعبير، بما انّه يستند الى تفسيرات الرب نفسه التي دوّنت لنا في العهد الجديد. وان لوقا الانجيلي يعلمنا في بشارته ان يسوع راح يشرح لتلميذي عماوس أنه “كان من الضروري ان يتمّ كلّ ما كُتب في شأنه، “في شريعة موسى والانبياء والمزامير” (24: 44).

انّ المسيح باستشهاده بالكتب المقدسة، ولا سيّما المزامير، يشهد أنّها تشهد له، كما أعلن في انجيل يوحنّا. وانّ لنا فيه وفي الكتب المقدسة الحياة (يوحنّا 5: 19)

3_ أصبحت المزامير صلاة الكنيسة

اقتدت الكنيسة بالمسيح والرسل والتلاميذ. منذ فجر الدين المسيحي كان الرهبان والنساك يحفظون الاناجيل والمزامير عن ظهر القلب. وتعوّد عدد كبير منهم ان يتلوا المئة والخمسين مزمورا يوميّاً. وكان كلّ من يطلب العماد وكلّ راهب مبتدئ انً يعرف غيباً سفر المزامير أو اجزاء منه.
ولا يخفى على أحد شأن المزامير في صلوات الفرض والقداس وعند توزيع الاسرار المقدسة


4– القراءة المسيحيّة للمزامير تستند إلى عناصر انسانيّة

يقرأ المسيحيّ المزامير ويكتشف سريعاً انّها تعبّر بصدق مؤثّر عن العواطف البشريّة. والواقع ان المزامير هي مرآة تعكس تقلّبات النفس البشريّة وانتقالها من الفرح إلى الحزن، ومن الامل إلى الملل، ومن التفاؤل الى التشاؤم، ومن الدعاء للناس إلى الدعاء عليهم. لذلك يرى الانسان، المسيحي وغيره، نفسه في المزامير. ولقد قسم علماء الكتاب المقديس المزامير إلى عدّة انواع ادبيّة منها مزامير التسبيح أو الاناشيد ومزامير الشكوى ومزامير الشكر ومزامير التوبة… وهذه الانواع المختلفة- التي تجتمع احيانا في مزمور واحد- تدلّ على اختلاف ظروف الحياة التي نشأ فيها والتي تتلاعب بالانسان كالريشة في مهبّ الريح. وهكذا نسمع في المزامير معظم الاصوات التي نسمعها في حياتنا اليومية: الدعاء والصراخ، والضحك والبكاء، والهدوء والغضب والوعد والوعيد والنصائح والحكم.

المزامير “افضل تعبير عن رغبات الانسان وعواطفه” (القديس اثناسيوس). ويقول البابا بيوس الثاني عشر: “ان المزامير تعبّر عن قلوبنا وعن الحزن فينا والرجاء والخوف والاستسلام لله”. وكتب الراهب الامريكي ثوماس مرتون: “عندما نقدّم لله آلامنا وأمانينا وآمالنا ومخاوفنا ونمزجها بآلام ذلك الانسان الغامض مرتّل المزامير وآماله… نضع كلّ ما لنا امام المسيح وهو يتكلّم… فتتحوّل هزيمتنا إلى نصر ويصبح موته حياة لنا ابديّة”.

يجد المسيحيّ في المزامير وصفاً لحياته وعواطفه وصراعه مع الشر والاشرار ورغبته في الحياة والحماية والسلامة. غير انه يجد في بعض المزامير آيات تصدمه لعنفها أو لنزعة قوميّة قد تبدو عنصريّة أو لرغبة المترنم في الانتقام أو لحصره رجائه برضى الله عليه في هذه الدنيا، وكأن لا وجود للآخرة. وهذا هو القسم الاخير من بحثنا.


5_ عقبات أمام القارئ المسيحي للمزامير

ئصدَم المسيحيّ احياناً عند قراءته لبعض المقاطع أو الايات. وعليه ان يتذكر ان المزامير قسم من “العهد القديم” التي اتى المسيح ليكمله. ان “العهد القديم” مرحلة ناقصة غير كاملة من الوحي. لذلك مع الزمن ومع عون الله والهامه تعالى للانبياء والكتّاب المقدّسين ترتفع تدريجيّاً المستويات الاخلاقيّة وتتسامى الامور العقائديّة وتتضح الغوامض. فتصبح “العين بالعين” لا تردّوا على الشرير ومن لطمك على خدّك الايمن فحوّل له الاخر…” وما إلى ذلك من تحسين. امّا النقص في اخلاقيات العهد القديم وعقائده اي عدم اكتمالها فمردّه ضعف الانسان وبطؤه في الروحانيات والاخلاقيّات وليس مردّه- حاشى وكلاّ- عجزا عند الله تعالى. فلا تناقض بين “العهدين” بل اكتمال.

بعد هذه الفكرة الشاملة، لنفحصنّ بالتفصيل بعض العقبات التي يجدها المسيحي عند قراءته للمزامير أو تلاوته لها، امّا وحده أو مع الكنيسة.


أ– الحقد على الاعداء وتمنّي الشّرور لهم

من الطبيعي للمرء ان يعبّر عن حنقه واستيائه من اعدائه، خصوصاً عندما يعادونه بدون سبب. الاّ ان اصحاب المزامير لا يخشون ان يبيّنوا حقدهم ورغبتهم في الانتقام وفي دمار اضدادهـم وفي موتهم. وهكذا ندرك ان اصحاب المزامير ما وصلوا بعد إلى الكمال الانجيلي المتمثل في الوصيّة السامية العسيرة “احبّوا اعداءكم” (متّى 5: 44)


يمكن ايضا تفسير حدّة الحقد والادعية على الاعداء بالطبع الشرقيّ الذي يميل احيانا إلى المبالغة أو الى اللجوء إلى “الانفجار الكلاميّ” بدون ان يقابله عنف أو ضرر في الواقع من ضرب أو قتل أو أي نوع آخر من الايذاء.

ويجدر بالمسيحي ان ينتبه إلى انّ كثيراً من الاعداء كانوا في الوقت نفسه أشراراً وكان أصحاب المزامير يعتقدون ان انتصار الاشرار يعني انتصار الشر على الخير. لذا اعتقدوا بضرورة تدخّل الله ليحطم الشر الذي مجمله الآثمون ويمثّلونه. من جهة اخرى كانوا – أي الصالحون الاتقياء ومنهم كتّاب المزامير- يظنّون ان اعداءهم اعداء الله نفسه.


وكان مؤمنوا العهد القديم يعتقدون بأن المجازاة من مكافأة وعقاب كانت تتّم في هذه الدنيا، ولذلك ظنّوا أنّ الشرير يجب أن يعاقب في هذه الحياة وان الصالح سينال مكافأته على هذه الأرض. وذلك قبل أن يذهب كلاهما إلى “الشيول” أي مقرّ الموتى حيث يتشاطران، بغير تمييز بينهما، حياة ظلمة تحت الارض (مزمور 6: 6). لذا يطلب الصالحون- في المزامير- أن يُنصفهم الله وأن يجازي الاشرار (مزمور 94: 1) وهم يستغربون من سلامة الآثمين ومِحَن الصدّيقين (مزامير 37 و49 و73) آملين أن يكون نعيم الاشرار مؤقّتاً وعذاب الابرار قصير المدى (مزمور 37: 15 و17- 22 و29 و35- 39 و مزمور 73: 18- 20 و27)

ب- الطمع في خيرات دنيويّة مع ذكر نادر لخيرات في الآخرة
هذه نتيجة للمعتقد في (العهد القديم) بالمجازاة في هـذه الدنيا. وظنّ الصدّيقون ان المطالبة بخيرات هذا العالم من (حقّهم). وكانت تلك الخيرات تتلخّص ببيت هادئ وكرمة مثمرة وعمر طويل ونسل كثير (خصوصاً من الذكور) واسرة سعيدة وصحّة جيّدة وانتصار على الاعداء.

وكان عند الاتقياء خشية ان لا شيء يستأهل الذكر أو التعب يأتي بعد القبر مع علمهم ان الانسان يهبط إلى (الشيول) الذي يرد في (المزامير) وان سكّانه الظلال والاشباح (الرفائيم) في الظلمة والخمول. وفي وقت لاحق صار عند اصحاب المزامير اقتناع بأنه سيكون فرق بين مصير الاشرار والابرار بعد الموت، واعربوا عن هذه الفكرة بكلمات غامضة: انّ الله سيأخذ الابرار وينتشلهم من الهاوية (عد إلى مزمور 16: 8- 11 ومزمور 17: 13- 16؛ ثم مزمور 49: 14- 20)


ب- الطمع في انتصارات قوميّة

في المزامير مقطوعات تتحدث عن نصر الشعب اليهودي المؤمن واستيلائه على ارض تدر لبنا وعسلا سيَدخلها بعد ان يطأَ اعداءه. وسبب هذه المواقف التي تصدمنا اليوم وتدلّ على أطماع توسعيّة وركبة جامحة ظالمة في السيطرة- هو اعتقاد الشعب المؤمن ان اعداءه اعداء الله نفسه، وان المعركة أو الحرب لا تدور بين شعب العهد القديم والشعوب الأخرى (الجوييم) بل هي حرب تدور رحاها بين الله تعالى الاله الواحد الحقّ وبين الاصنام الوثنيّة. فالمعركة حامية بين التوحيد والصلاح من جهة وبين الوثنية (الشرك) والفساد الاخلاقي من جهة اخرى. لهذا يطلب أصحاب المزامير، أن ينتصر التوحيد على الاشراك بالله، والدين الحق على الأديان الباطلة، والاله الواحد الحقّ القهّار على عبادة الاصنام المضلّلة.

وان كان الله قد وعد الشعب العبرى بأرض وملك وسيطرة، فان هذه الوعود كانت أولاً وعوداً تربويّة أي ان تلك الخيرات الدنيوية والانتصارات القوميّة لم تكن سوى رمز لمجيء الملكوت. وكانت تلك الوعود شرطيّة: انها تتم فقط في حالة وفاء الشعب لعهد الله تعالى واستقباله للمسيح. ولكن الشعب نقض العهد ورفض المسيح يسوع… راجع مزمور 89: 24- 33 و39- 46 حيث يذكر صاحب المزمور انّ “الله عاقب الشعب العبري وسيعاقبه بانحطاط الدولة اي السلالة الداوديّة واندحارها…

خاتمة

تنظر العيون المسيحيّة إلى المزامير نظرة انسانية ترى فيها النفس البشرية انعكاساً لعواطفها ورغباتها واحلامها، وتمعن النظر في (المزامير) لتشهد فيها، بعد يسوع والرسل والتلاميذ ومع آباء الكنيسة منذ اقدم العصور، صورة المسيح الفادي ولتسمع صوت الكنيسة. وعندما نصطدم بعقبات أي كلمات وآيات تنمّ عن الحقد والاطماع التوسعية الدنيويّة، يساعدنا علم الكتاب المقدس لندرك انّ تلك المشاعر والاعتقادات كانت مرحلة بدائيّة ناقصة ستكمل في العهد الجديد بهدي الانجيل ونوره. لنجعلن من حياتنا نشيد مدح لله وشكر له تعالى، كما قال المترنم بحماس: “يطيب رفع الحمد إلى المولى والتغنّي باسمك أيها الاعلى، واعلان رحمتك صباحاً والجهر بأماننك ليلاً… فقد ابهجتتي يا رب بأعمالك فهتفت سروراً بصنع يديك” (92: 2- 5).