حركة العصر الجديد ( القسم الثاني )

الأب حبيب هرمز

مجلة نجم المشرق العدد 29 /2002

لقد شهدت المسيحية منذ نشأتها تيارات عديدة مشهورة لمحة تاريخية منها : الغنوصية، وأخرى مغمورة : كالأوفيتسية والقايينية – أتباع قايين – فالغنوصية تدعي انه يوجد داخل كل فرد رغبة لم يتم إشباعها عبر الحياة اليومية، ولكن للإنسان القدرة على إشباع رغبته عبر طقوس وممارسات حسية ليصل الى النشوة والتجلي. ومع تقدم السنين استخدم مروجو هذه الظاهرة إضافة الى آيات من الكتاب المقدس؛ وأحداث قديمة حصلت في الحضارات القديمة ؛ كلمات من قواميس اللغات القديمة لإسناد فرضياتهم، منها كلمة: occultism – OCCULERE التي يعثر عليها في اللغات القديمة حيث تعني “ان يخفي”، وفي معجم اكسفورد: خفي، باطن، مستور غامض. ولها جذور عند البابليين والمصريين واليهود بعدئذ، إذ تشير الى فكرة الإستعانة بالتنجيم والكيمياء والتكهن والسحر لكشف المعرفة الخفية عن الكون وقواته الغامضة، فيفترض الشخص المؤمن بها – حسب معناها -؛ وجود اتصالات وعلاقات بين النجوم والكواكب مع اجزاء من الجسم الإنساني لغرض الكشف عن الغامض لأجل الشفاء أو توقع المستقبل، وقد تدعو أحيانا الى الإيمان بالملائكة والآلهة والارواح.

تطور الحالة في أوروبا والولايات المتحدة

لقد تم حظر، اي منع نشر، هذه الأفكار في عصور أوروبا الوسيطة (في إيطاليا (مثلا)، اعتبارا من القرن الخامس وحتى الخامس عشر، وذلك بعد أن لوحظ زيادة الاهتمام بها، نتيجة تأسيس أكاديمية افلاطون – حيث هدفت الأكاديمية المذكورة الى مزج الفلسفة مع الطرق التجريبية لأجل الكشف عن الحكمة الباطنية فكانت النتيجة أن أتهم البعض انه مدفوع شيطانيًا، فحصل اضطهاد للمتهمين بالسحر، وعُذبت النساء وقتل البعض منهن، لذا تم حصر هذه الأفكار حتى ظهرت من جديد في القرن الثامن والتاسع عشر عبر حركة التنوير في فرنسا، والليبرالية النظرية في انكلترا

مع آدم سميث[1] – التي تدعي ان الخير يكمن في مجموع منفعة الأفراد المتمتعين بحرية تامة !!! -. دعت الى العصر الجديد للخروج من الظلام والجهل وعبادة الطبيعة والعقل. إذ تشكلت الأفكار ضمن فلسفة التطور التي تؤمن ان كمال الإنسان والعالم يتحقق بفضل العقل والعلم والديمقراطية، وأن مشاكل الجنس البشري ستحل. ومن منظري هذه الفلسفة ايضا : روسو ،مونتسكيو ،فولتير، ديدرو، كوندورسيه فيورباخ، إنجلز، ماركس ،برودون ،وغيرهم، لكن منهم من تنبأ بديانات جديدة مثل رينان +۱۸۹۲ الذي دعا الى ان يحل العلم محل الدين. كما انجبت الموجة ايضا مولودًا جديدًا اسمه التنويم المغناطيسي الذي يمارس اليوم في نطاق علم النفس وعند أتباع الحركة في الوقت نفسه، إذ برز في مضماره الطبيب النمساوي (فرانز انتون) الذي أكد على تفاعل العقل مع الكون مباشرة. كما نشأت في سنة ١٨٧٥ في الولايات المتحدة حركة الثيوصوفية (اي معرفة الله )[2] ، وهي تدخل ضمن التيار عينه.

 كما تم التوجه نحو الرمزية وقوة الخيال، فظهرت حركة روحانية اخرى في القرن التاسع عشر اسمها (Reinventions اعادة الكشف )التي اهتمت بمعاني المصطلح اعلاه، وانظم إليها الشعراء والمفكرون والفنانون. وفي سنة ۱۹٦٠ ظهرت حركة (Counter culture الثقافة المضادة) لتبشر بمعاني المصطلح الأنف ذكره ضمن حركة العصر الجديد.

وتستمر البِدَع، ففي سنة ۱۹۸۰ نشر كتاب (مؤامرة الدلو) تدعو كاتبته الى التبشير بـ( العصر الجديد). واليوم آلاف الفرق العاملة في العالم لأجل الدعاية وممارسة الانحرافات حيث توجد ۲۵۰۰ فرقة في الولايات المتحدة وحدها وكلها تسيء الى الكتاب المقدس وتضيف إليه – نشير هنا الى اصحاب كتابي مورمون والمونيون، الذين يدعون انهم أُلهموا إصدار الكتاب المقدس الجديد ؟!–

خلاصة عن العصر الجديد

حركة تستند على فكرة أن الله هو كل شيء  وان كل شيء هو الله ، وهذه الفكرة تدعو الى وحدة الوجود. لذا فهي ليست بالحركة الجديدة كلية. ولكنها اليوم تحمل طابعًا اجتماعيًا، روحيًا، سياسيا، ومنوعا، تهدف الى تحويل الأفراد والمجتمع عبر السيطرة على الوعي الروحي لدى الإنسان. إنها رؤية خيالية لعصر الإنسـجام والتقدم عصر يمتاز بنشاط الفرد والجماعة الصغيرة التي تجتمع لترتل أناشيد معينة وتحتفل بما يقال إنه قداس مصحوب بحركات. بدأت تنتشر منذ سنة ۱۹۸۰ عبر الكتـب والمجلات والوسائل الإعلامية الأخرى، ودعايات الأطعمة وجلسات التأمل والشفاء، فأضحت توحيدية جديدة تدعو الفرد اليه. الفرد – هنا جزء من الله – اولا الى تحمل مسؤولية نفسه حيث يهتم برعاية جسده صحيًا ورياضيًا، ويتسلح بسلاح فعال، ويؤمن بتناسخ الروح، ويتدرب على فنون القتال، واستخدام البلورة  (Crystal )، اسلوب الغموض عبر التنجيم واعمال السحر والادراك اللاحسّي الشافي والتكهّن والوخز بالأبر والتدليك والزين والاساطير. وفي الولايات المتحدة وكندا يجري التدرب على رقصة الشبح والرقص الشمسي، وهي من الفعاليات الروحية الهندية.

إن من بين أسانيد هؤلاء هو عدم وجود معلومات اكيدة عن كل الكون، ولا للأهرامات والهياكل القديمة والغريبة والتي توحي بزوار قدموا من خارج الكون، فعلينا ان نتصل بهم لأن لدينا الطاقة الكافية. لذلك يدّعي هؤلاء ان لا حاجة للأديان السماوية، ولا لإله المسيحيين، ولا للمؤسسات، ولا لما هو مكتوب، ولا للعقائد، ولا للقيم او للأخلاق؛ الحاجة هي إلى الجذور الهندوسية والبوذية والأناجيل المنحولة والغنوصية – التي اصبحت ترتدي لباسا جديدًا كل يوم كما هو الحــال في مذهب العلم (SCIENTOLOGY) الذي يؤكد على دور الطاقة الحياة في الكون – والبدع العاملة بحرية، وجلسات مخاطبة الأرواح …الخ. إنها باختصار إحدى إفرازات الفهم العلماني للمسيح، والبعيد عن الإجماع الكنسي الرسمي، بهدف بلع ما موجود من افكار عالمية لسد بعض الفراغ الذي نتج عن الحضارة الغربية ذات الأسس المادية والعلمية البحتة، برغم انه حتى قياسات العلمنة، وفق المفهوم المسيحي، لا تنطبق عليها هذه الحركة.

اليوم  إن من أسباب هذه الظاهرة : تزعزع إستقرار الشعوب، والهجرة الداخلية الكثيفة من القرى والأرياف الى المدن الكبيرة، والنتائج الخطيرة لقلع الإنسان وعائلته من الجذور ،والهجرة الخارجية الى أقطار العالم المختلفة، وتشابك العلاقات والعادات والتقاليد والأعراف، وتباين ونسبية معاني القيم بين شعب وآخر، والتباين الشديد في المستوى الاقتصادي، وظاهرة العولمة ثقافيًا، والاتصالات السريعة بين الأفراد والجماعات. لقد ولّدت الهجرة جماعات صغيرة داخل جماعات كبيرة؛ ترفض الأولى الذوبان برغم العولمة، وتتمسك بلغتها وتقاليدها الى فترة مستقبلية لا أحد يعرف مداها ، في وقت كان المخطط له ان هذه الجماعات ستذوب بسرعة  نعلم أن الروابط التاريخية والاجتماعية والثقافية تتوثق في مجتمع مستقر يؤمن ابناؤه بقيم اخلاقية تهدف الى بناء الإنسان وفق اسس إيمانية سماوية، فيتقدم البناء الروحي له اكثر عندما تسهم هذه القيم بتعميق الإيمان بمخلص وخالق ومدبّر هذا الكون. لذا فان انحسار دين سماوي (واحيانا انحسار الإيمان وبقاء المظاهر الدينية فقط) هو لعدم تكيف حاملي لوائه إيجابيًا مع حملة قيم الخير في العالم من المؤمنين غير المتدينين، وقلة تفاعله الإيجابي مع مجدديه او حتى مع ناقديه. كل هذا وذاك سيؤدي الى ظهور حركات دينية جديدة لتلبية حاجات محددة متنوعة لأناس معينين. وهذا ما يحصل في بعض بقاع العالم حاليا، ويريد البعض تصديره إلى كل أرجاء العالم. لذا علينا التأكيد على عيش الايمان جماعيًا بصدق من خلال قبول تناقضات الحياة اليومية على رجاء العيش الأفضل. هذا الرجاء يبقى مجرد كلمة إذا لم يحي بالالتزام بقضايا الإنسان المصيرية، واحترام ما هوحسن ومقدّس عند الآخر من خلال الحوار الإيجابي البناء.

لقد ساوت المعطيات التكنولوجية بين الناس، بين الرجل والمرأة، بين حامل الشهادة ومن لا يحملها، بين الصغير والكبير، فاليوم يتصل الناس عبر وسائل الاتصال: الهاتف النقال والسلكي، والانترنت، والفاكس، والبرقية، والبريد الالكتروني وغيرها ؛ يتصلون للإجتماع لأهداف كثيرة، لعل من اغربها ما حدثتنا عنه وسائل الإعلام من صلوات بين مشتركي (الانترنت) إذ يحددون الموعد ويبثون موسيقى الصلاة، كل ذلك كرد فعل على قيام آخرين في الشبكة نفسها ببث ونشر وتحريض على تهديم القيم الأخلاقية بما هو مفضوح.

كما إننا اليوم مدعوون الى الحداثة، لدعمها ومعايشتها، وجمع ثمارها المتنوعة، أنّى كان مصدرها. فكم هو جميل عندما نقرأ عن غاندي انه كان يحمل انجيل متى في جيبه في ذهابه وايابه.  وكم هي جميلة كلمات طاغور عندما نستعملها في صلاتنا الكنسية، أو عندما نتذكر تصوّف الحلاج، ورابعة العدوية ! إنها وغيرها تساعدنا كي تنفتح ونأخذ المفيد.

ان من الأسباب الأخرى لهذه الظاهرة عدم التركيز في تربيتنا الدينية على التمييز بين الممارسات الايمانية والدينية، ومن ثم الحياة بموجبها. فالدين هو مسعى إنساني للالتقاء مع مبادرة الله، اي الايمان به، ولكن ترافقه في كثير من الاحيان ممارسات تشوهه (سحرية)، نتيجة ضعف المثاقفة في اوساط المتدينين، مما يجعلهم لا يعيشون طبقا للإيمان. لذا شح عدد الشهود في العالم.

نحن في حاجة الى الإحتفال بطقوسنا، والتأمل في تراثنا، وزيادة المعرفة والمثاقفة كي نحول كلمات الكتاب المقدس الى حياة تنعش كياننا البشري، لا الممارسة الدينية اللاواعية التي هي إما بدافع الخوف من الله – الذي هو كله محبة مجانية بلا شروط -، او بدافع الواجب، في حين أن الله يحبّنا فنحن نبادله المحبة بحرية، وهكذا يطول الكلام عن العادات والتقاليد التي قد لا تتلاءم مع تطور الحياة، فنسهم مع غبار الزمن في عدم رؤية علامات الأزمنة.

يقول الرسول بولس في رسالته الى أهل غلاطية : ” ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن محروما “ (غلا ۸/۱). لذا فإن الكشف عن هذه الممارسات يعتبر من ضروريات العمل المسيحي والانساني لأجل الإسهام في تقدم الفكر الانساني ضمن التدبير الإلهي الخلاصي ، بواسطة ربنا يسوع المسيح.


[1] الشؤون الحديثة: منشورات حركة عدالة ومحبة 1995.

[2] نظرية الإتصال بالله كي نستمد منه قوى خارقة – جاكوب بوهم، طالع الجمعيات السرية لأركون دارول، ت أسيا الطريحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1994، بيروت ص81.