السلام في المسيحية

المطران حبيب هرمز

مقدمة

كلمة السلام تقرأ شلاما بالسورث وشالوم في العبرية وتعني الوضع السليم للشيء. ويمكننا التأمل في آيات اشير فيها الى الكلمة مثل: ايوب 9: 4[1]؛ 1مل 9: 25[2]؛ خر 21: 34[3] وغيرها.

ولعلّ اهم ما نحتاجه في عالمنا اليوم هو العيش بسلام، وقد كثر الحديث عنه الى ان اضحى حلما وربما افتراضيا لدى الكثيرين. ولأهميته يصدر قداسة بابا الفاتيكان رسالة في بدء كل عام جديد حول السلام حيث تم تثبيت يوم رأس السنة ليكرس للسلام العالمي.

ولأننا مدعوون الى بعث الرجاء في عالم افضل، اخترت التأمل في معناه حيث ركزت على المفهوم المسيحي بدءًا من الكتاب المقدس ثم كتابات لبعض الآباء وما اكدت عليه الكنيسة الجامعة واهتم به بعض اللاهوتيين.

السلام معكم

عندما اودع الرب سلامه لدى التلاميذ في مساء احد القيامة قال: “السلام معكم” ولثلاث مرات (يو 20). ونعلم كم ان لرقم ثلاثة من اهمية في حضارات وادي الرافدين والكتاب المقدس. كون القاء السلام مبادرة من المسيح في حديثه مع التلاميذ، وذكر ثلاث مرات فهذا ذو مغزى كبير يبين مركزية الحياة الجديدة.

يقول كارل راهنر ان السلام هو عطية الله بواسطة يسوع المسيح الذي قال لتلاميذه ” السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم” (يو 14). فإهتمام يسوع والكنيسة بالسلام هو لأجل الحفاظ على حقوق وكرامة الشخص البشري المخلوق على صورة الله ومثاله.[4] فالسلام هو ثمرة الإنتصار على الخطيئة، وحالة اللاسلام هي بسبب إنقسام الإنسان اي قطع العلاقة مع الله وحرمانه من نعمته.

حسب القديس توما الأكويني السلام هو “نظام الحياة المشتركة المؤسسة على العدل”[5] فحيث هناك عدالة هناك سلام. ولكن سيبقى العالم يعيش بلا سلام او بسلام جزئي بسبب إعمال البشر الغير عادلة في التعامل. والتاريخ يري لنا كيف ان اهانة البشر ادت الى كوارث ودمار. وكذلك نلاحظ دائما تعالي البشر بسبب ايديولوجيات وافكار دينية متطرفة. هذا اضافة الى النزعة الإستهلاكية نتيجة الحضارة المادية التي تؤدي الى جعل البشر سلعة تباع وتشترى. وقد عملت بعض الهيئات، ولازالت، للدفاع عن حقوق الإنسان بغية الوصول الى السلام، ولعّل ابرز ثمار الجهد العالمي هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1949.

السلام حق وواجب

السلام هو حق وليس منية من احد، ولكن العديد من ابعاد الحياة تؤثر في كون الشخص يعيش بسلام ام لا: السياسة، المجتمع، الإقتصاد، والثقافة. والعيش بسلام يتأثر سلبيا عندما تتأثر حقوق الشخص في الميادين اعلاه. لذا السلام يشمل كل ابعاد الحياة لا فقط اللاحرب كما يدعي اغلب السياسيين. ولأن السلام حق شمولي فإنه يشمل الحق في الحياة، من هنا يجب رفع الصوت تجاه العنف الشخصي والأسري والمجتمعي والدولي.

إن اي دين يوجه اتباعه كي يقرروا موقفهم من الحياة. لذلك من الواجب للمسيحي ان يسعى الى السلام من خلال عيش الإيمان النابع من مصدر السلام الا وهو المسيح. ومن ضمن اشكال هذا السعي هو الدخول في حوارات فكرية ومبادرات عملية تحث على العيش بسلام على كافة الأصعدة. هنا يبرز دور تنمية الضمير الشخصي والمجتمعي. لذلك للتعليم المسيحي والمدارس الدور الكبير في ايقاظ ضمير الشخص للعمل لهذا الهدف المقدس: “9طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون.” (متى 5).

السلام والعمل

من الأخطار التي يواجهها السلام هو موجات العاطلين عن العمل والتي تؤدي الى صراعات مجتمعية مؤلمة. فلا فقط تزايد اعداد العاطلين يؤذي عيش السلام الداخلي والخارجي، ولكن اشكال التمييز اثناء العمل بسبب الدين، القومية، المنطقة، الثقافة وغيرها. وهذه نجدها اثناء التقديم للعمل وفي ميادين العمل وعند تقييمه.

وبسبب كون اعداد المهاجرين في العالم هي بمئات الملايين وزيادة نسبة البطالة فإن ما يجعل السلام حلما هو عدم توفر فرص العمل بعدالة وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لذلك نرى البشر في حالة حرب نفسية داخلية تنفجر بوجه الآخرين بين حين وآخر. ويتساءل المرء:  أي سلام عند العاطلين عن العمل، لدى من لا يعرفون القراءة والكتابة، لدى المظلومين، لدى المحرومين بسبب اتباعهم ديانة ليست ديانة أغلبية ابناء المجتمع وغيرها.

البشر لديهم طاقات هائلة ومن الممكن ان يحيوا بسلام، ولكن حسب رسالة للبابا القديس يوحنا بولس 2[6] يجب توفر شرط التربية على عيش حياة تؤدي الى السلام. ارى ان التعليم الإبتدائي والثانوي مهم جدا لزرع مفهوم وممارسة حياة سليمة لأن هؤلاء سيقودون المجتمع مستقبلا. هذا بعد اهمية البيت القصوى فأحيانا اخوة متخاصمين يحيون بدون سلام داخل البيت! كما وان فقدان السلام الداخلي بسبب الخطيئة الجاثمة على صدورنا هو سبب آخر ينبغي معالجته.

يجدر هنا الإشارة الى علاقة السلام بالبيئة، ان تدمير البيئة بسبب اهواء البشر والحرية الفوضوية يخلق حالة من القلق واليأس من طبيعة جميلة. وبالنتيجة تظهر علامات فقدان السلام المجتمعي. وكم من خير لم نجتنيه بسبب تدمير الأرض والبيئة والثروات والتراث والآثار والمياة. وعموما هي كلها من ثمار الحروب ونتائجها. فالحرب هي دلالة فشل الأطراف المتورطين بها لأنهم فشلوا في السعي الى السلام.[7]

السلام الخارجي من السلام الداخلي

في رسالة ليوحنا الناسك في القرن السادس الى صديقه يقول: “أكرم السلام أكثر من أي شيء آخر، ولكن أولاً حاول جاهداً كي تكون أنت في سلام، وبهذه الطريقة ستجد من السهل لك أن تكون في سلام مع الآخرين. فكيف يستطيع شخص أعمى أن يشفي الآخرين؟ يجب أن لا تفترض أن كل باعث هو جيد، والذي قد يحول دون السلام. لأن الأمر الواحد الجيد لا يبطل الآخر. تخلص من أي بواعث تبطل إحساسك بالسلام بهدف الحاجة لتأسيس السلام.”[8] وكي نحيا السلام علينا، حسب الروحاني المشرقي يوسف حزايا من القرن السابع، علينا “ان نفتح اعيننا وننظر الى داخلنا حيث نجد الراحة والهدوء والسلام حيث لا يستطيع اي إنسان بشري التعبير عنها. فللسماء ولقلبنا باب واحد”.

       سلامنا يتحقق عندما اعمالنا تكون مصنوعة من قبل الله فالطوبى هي لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون(متى 5: 9). انها مفارقة قوية ذكرها اشعيا النبي (أش 26: 12)؛ مفارقة ان يصنع الله اعمال البشر لعظم الحرية التي منحها لهم. وفي نفس الوقت فالسلام هو ثمرة روح الله الذي يهبه مجانا. يقول الأب اليسوعي هنري نوون” “يسوع صانع السلام، ولا يعني سلامه انعدام الحرب فقط، أو ببساطة الألفة والتوازن. سلامه هو ملء الصلاح الذي وهبه الله له مجاناً”. يقول الرب: “27السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم.” (يوحنا 14: 27).

      السلام في الشخص هو علامة صلاح العقل والقلب والجسد، على الصعيد الفردي والجماعي. والشخص بإمكانه العيش بسلام في خضم عالم تمزقه الحرب، أو حتى في وسط مشاكل عالقة ونزاعات إنسانية متزايدة. لقد حقق الرب يسوع ذلك السلام بإخلاء ذاته في سبيل إخوانه وأخواته. أن هذا السلام ليس سهلاً، لكنه أبديُّ وينبع من الله.”

ولكننا امام خطر غياب السلام فينا فحسب نوون ” ان تجربتنا الكبرى هي عندما يغيب سلامنا عن الناس، وهذا يحدث عندما نغضب، ونصبح عدوانيين، ولاذعين، وحقودين، ومستغلين، أو منتقمين عندما لا يتجاوب الاخرون مع اخبارنا السارة.”[9]

ختاماً: الرجاء برب السلام

في الميمر 57 للقديس يعقوب السروجي (+ 521) وصف لعطاء المسيح للسلام. يقول: “قال لهم كما في البداية: السلام معكم، وبهذا (السلام) علّمهم بحكمة،[10] كل شيء كان يصادفهم بالسلام وبمحبة ليقتنوا طيبه ويتشبهوا به، منذ ان اتى الى ان ذهب عند مرسله كان كل شيء يجري بالسلام في كل دربه، الملاك اعطى السلام لأمه لما استقبلته، والمستيقظ (اعطى) السلام للرعاة لما ولدته،[11][12] سلام المسيح هو سلام خاص ليس من العالم لأن الأخير ماكر.

لقد جاء الرب ليحقق رؤية اشعيا الذي قال :”فيسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، ويعلف العجل والشبل معاً، وصبي صغير يسوقهما… لأن الارض تمتليء من معرفة الرب كما تغمر المياه البحر “(اشعيا 11: 6-9). لكن السلام لا يتحقق نهائيا سوى عندما تتحقق ربوبية المسيح على الكون من خلال اعتراف العالم به.


[1] إِنَّه حَكيمُ القَلْبِ شَديدُ البَأس فمَن ذا الَّذي يَتَصَلَّبُ أَمامَه ويَسلَم؟

[2] 25وكان سُلَمان يُصعِدُ ثَلاثَ مرَاتٍ في السَّنَةِ مُحرَقات وذَبائِحَ سَلامِيَّةً على المَذبَحِ الَّذي بَناه لِلرَّبّ،

[3] 34 فلْيَدْفَعْ ثَمَنَه صاحِبُ البِئْر ويُؤَدِّه إلى صاحِبِه، والمَيتُ يَكونُ لَه.

[4] طالع رسالة البابا القديس يوحنا بولس الثاني بعنوان “فادي الإنسان”، 1979.

[5] راهنر، كارل: معجم اللاهوت الكاثوليكي، بيروت، دار المشرق، 1986، ص 167.

[6] رسالة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للسلام، 1999.

[7] عدا الدفاعية وبشروط ضيقة ومحددة التي هي اصلا دفاعا عن السلام

[8] طالع رسالته المترجمة الى العربية في كتاب: أنات لا توصف، لكاتب المقال، بغداد، 2003، ص64.

[9] نوون، هنري (الأب): خبز لرحلة الحياة، ترجمة كاتب المقال، بغداد، 2000.

[10] – يوحنا 20/19

[11] – لوقا 1/28، 2/14

[12] سوني، بهنام (الأب د.): ميامر يعقوب السروجي (ت)، الميمر 57.